عدد المساهمات : 704 تاريخ التسجيل : 23/03/2016 العمر : 35
موضوع: السّعادة يا من تبحث عن السعادة! السبت مارس 26, 2016 10:14 pm
اللّهمّ لكَ الحَمد حمدًا كثيرًا طيبًّا مُباركًا فيه، ملء السّموات والأرضِ، ومِلء ما بينهُما، ومِلء ما شئت من شيءٍ بعدُ. ،’ السّعادة يا من تبحث عن السعادة!
،’
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنَّه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنِّي؛ فكأنَّه ما حمل شيئًا. ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها. ** ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة؛ من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه.
وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِّلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة؛ من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره. وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق، ويعظم الهمُّ، وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان، صابرًا عنه؛ أملًا بهذه الدخينة، فلمَّا رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
... وإن في النفس الإنسانية لَقُوًى إذا عرفتم كيف تفيدون منها؛ صنعت لكم العجائب. تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ ألَمْ يتفق لواحد منكم؛ أن أصبح مريضًا، خامل الجسد، واهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب؛ من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبًا، كأنَّه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيًّا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له؛ أنه قادم الساعة من سفره، أو كتابًا مستعجلًا من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته، فأحسَّ الخفة والشبع، وعدًا عدوًا إلى المحطة، أو إلى مقرِّ الوزير؟ ** هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها؛ كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا، فتتركونه وتستقون؛ من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة! .................... ~ يُتبعُ بحَوله تعالى. * المصدر: كتاب صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، (ص17). علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م). نشر عام 1948